أنت تُحَدّد البِداية

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه : " اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناءك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك " أخرجه الحاكم في المستدرك

أول من قام بتطبيق هذه الوصية الحكيمة هو من شنَّف آذاننا بهذا القول (صلى الله عليه وسلم) ، فهو لم يقضِ ثانيةً من حياته المباركة دون أن يجعلها وسيلةً تزيده قُرباً من خالقه جلّ جلاله ، فقد أمضى كلّ وقته في تبليغ الرسالة ، ومحاربة الظلم والطغيان ، ومساعدة المحروم واللّهفان ، وتعليم كل تائهٍ وحَيْران، وإنارة طريق الهدى لكل من أراد الفلاح والجِنان.

 بعد هذا كُلّه  ، عندما يكون بمفرده ، يلجأ إلى كَنَف رحمة خالقه ، فيَخلو بمحبوبه ويناجيه، فتَخْرج عِباراتُ الحُبّ مِنْ فيه، وتُسكَبُ عَبَرات الشوق فَيُروى الكونُ بمن فيه. 

هذا حال قدوتنا (صلى الله عليه وسلم) فماذا عنا؟ هل ستستمر أيامنا وليالينا بدون أن نتقدّم ونُصلحَ حالنا؟ هل ستمضي أوقاتنا دون أن نتفكر في عظمة خالقنا؟ في المهمّة التي كلّفنا بها في هذه الحياة؟

بعد إذنك ، سنسعى في هذا المقال إلى الانقطاع عن كلّ شيء يشوّشنا في هذا العالم الذي نعيش فيه، لنعرف حقًا أين نحن الآن وإلى أين نحن ذاهبون ، بحيث تكون بداية العام بداية حقيقية في حياتنا ، وليس بداية أرقام وتعداد لأشهر السنة.

ولعل أول ما ينبغي أن يتبادر إلى ذهن المسلم حين يرى كيف تنتهي سنة واحدة وتبدأ سنة أخرى ، هو أن يتذكر عظمة هذا الخالق  الذي لديه القدرة المطلقة على خلق الأيام والليالي والشهور والسنوات وتقليبها تحت نظام بديع.

 قال الله تعالى: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ" آل عمران: 190

تَفَكّر أيُّها المسلم في كلّ ما جرى فيما مضى من الأيام وغَبَر، كم من ظالمٍ هلك وانْدَحَر؟، كم من غنيّ طمع فافتَقَر؟، كم من عزيزٍ ذلَّ و صَغَر؟، وبالعكس، كم من مظلومٍ قام فانتصر؟، كم من فقيرٍ اغتنى فشَكَر؟، كم من ذليلٍ عزّ فبَصَر، أنّ هذه الدنيا أيامٌ يداوِلُها اللهُ بين الناس، وكلّ أمرٍ بقضاءٍ وقَدَر.

قال الله تعالى: "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ  بِيَدِكَ الْخَيْرُ  إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " آل عمران: 26

مع كثرة الشواغل التي تصرفنا عن الله في هذه الحياة ، ننسى أحيانًا أن هذه الحياة لها حدّ ونهاية ، وأن لدينا عددًا محدوداً من الأنفاس التي لا يمكننا أن نزيد عليها ولا نفساً واحداً. ننسى أنّ كلّ ثانيةٍ  تمرّ بنا تقربنا خطوة  من الموت الحتمي الذي بعده ، سوف نُسأل عمّا فعلناه ، عمّا ساهمنا به في خدمة دين خالقنا.

تمضي الأيام والليالي والأشهر والسنون، وننسى أنّا في دارٍ مؤقتة ليست بدار قرار، نحسب بجهلنا وغفلتنا أننا خالدون مخلّدون فيها أبدا. قال الحسن البصري: يا ابن آدم، إنما أنت أيّام، فإذا ذهب يومٌ ذهب بعضُك.

في الحقيقة ، تمثل هذه الحياة بأيامها ولياليها مخزنا لأعمالنا ، وعلى الرغم من أنها قصيرة جدًا ومحدودة للغاية ، إلا أنك يمكنك شراء أكبر ثروة بهذه البضاعة التي قمت باختزانها، هذه الثروة هي رضوان الله الأكبر والفوز بجنّات النعيم ،، و بالمقابل، تستطيع أن تشتري أسوأ ما يمكن شراؤه، أعني الجحيم المقيم بعيداً عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فما أصعب ذلك العذاب وما أشدّه.

ننسى أن الموت ليس لديه أصدقاء ، وأنه لا يمكن تأجيله، وأنه آتٍ لا محالة،فإذا جاءنا لن يكون لدينا أي شيء يُسعفنا ويُنجدنا إلا عملنا الصالح الذي قمنا به في هذه الحياة.

القمر ، تمثيل دقيق لحياتنا

لو وقفنا متأمّلين عندما ننظر إلى القمر، وكيف يبدأ في بداية الشهر  رقيقا رفيعاً  ثم ينمو تدريجياً  حتى يصبح بدراً كاملاً ، ثم بالعكس، يصغر شيئا فشيئاً حتى يختفي تماما. إذا تفكّر أحدنا في هذا المشهد العظيم البليغ، سيرى في هذه الظاهرة تمثيلًا دقيقًا لحياتنا ، لأن حياة الإنسان مَثَلُها كمثل القمر ، يخرج من رحم والدته ، صغيرا جدًا وضعيفاً جدًا ، ويومًا بعد يوم ، شهرًا بعد شهر ، سنة بعد سنة ، ينمو ويكبر حتى يصل إلى نقطة تحوّل حيث يبدأ يتراجع أدائه مرة أخرى ، ويصبح ضعيفًا ، وهكذا إلى أن يختفي بالموت ، فهذه الحياة يذكّرنا الله تعالى بحقيقتها في كل يوم وليلة وشهر، لكنّ أكثرنا لا يعقل.

قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ. (الروم:54).

عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رجلا سأل فقال: يا رسولَ اللَّهِ أيُّ النَّاسِ خيرٌ ؟ قالَ : مَن طالَ عمرُهُ ، وحَسنَ عملُهُ ، قالَ : فأيُّ النَّاسِ شرٌّ ؟ قالَ : مَن طالَ عمرُهُ وساءَ عملُهُ. رواه الترمذي

عندما نفكر في تعاقب الليل والنهار نتذكر أن هذه الحياة ليست أكثر من مجموعة من المراحل ، كل مرحلة لها قيمتها  ، كل مرحلة لها واجباتها والتزاماتها ، وما يجب القيام به هذه الساعة يجب القيام به في الوقت نفسه لا بعده ، عندما تمر تلك الساعة ، سيكون هناك واجب آخر يتعين علينا القيام به ، وإذا تركنا التزاماتنا ، أو قمنا بتأجيلها فقط ، فإنّا سنجعل على عاتقنا حملاً لا طاقة لنا به

الموَفّق بيننا هو الذي يدرك هذا الواقع ، ولا يؤجل واجب النهار إلى الليل ، لأن هذه الحياة قصيرة ، وكل ثانية فيها يتحتّم علينا فعل أمرٍ لا يمكن القيام به في الثانية القادمة..

 

عندما يحين الوقت الذي يتعين علينا فيه مغادرة هذه الحياة ، سنتمنى أن يُسمح لنا  باسترداد ساعة واحدة فقط ممّا مضى، ولكن، أنّى لنا ذلك؟

يقال إن رجلاً من الصالحين كان يصلّى ألف ركعة في اليوم ، وفي أحد الأيام أوقفه رجل على الطريق ، وقال: أريد أن أتحدث إليكم ، فأجابه الرجل الصالح: قبل أن تتحدث معي يجب أن تعدني بأنك ستوقف الوقت..

إن ردة الفعل هذه حتى لو كان فيها شيء من المبالغة ،إلّا أنها تظهر  كم كان الوقت غالياً وثمينا لدا ذلك العبد الصالح ، وكيف أدرك أن الحياة أوقات، إذا ذهبت، ذهب جزء من الحياة..

قال الحسنُ البصريُّ - رحمه الله - : "ما من يوم ينشقُّ فجره إلا ويُنادي: يا ابن آدم أنا خلقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزوّد منِّي فإني إذا مضيتُ لا أعود .. إلى يوم القيامة"."

 

أولئك الذين عرفوا الله ، يخجلون أن تمر ليلة ولم يزدادوا فيها قرباً من الله، أو يوماً ولم يزدادوا معرفةً به جلّ جلاله.

عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ)). رواه البخاري

 

ما يريد أن يوصله لنا صلى الله عليه وسلم هو أن الكثير من الناس لا يشعرون بنعمة الفراغ حتى يفقدوها، ولا يقومون باغتنام هذه النعمة بما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم. وبدلاً من الاستفادة من الوقت ، فإنهم يفسدون ذلك بطرق شتى ما بين نوم مفرط ، وأكل متخم ، وحديث عن الناس ، وقيل وقال، ولهو ولغو وإضاعة للمال، وغير ذلك مما يؤسف ويُحزن.

والأسوأ من ذلك كله ، أنه عندما نُسأل ، لماذا لا تفعل شيئًا منتجًا ، لماذا لا تستخدم هذا الذهب (الوقت) الذي مُنح لك في خدمة الإنسانية ، وفعل الخير للآخرين ، في تعلم دينك ، في التعرف على حبيبك صلى الله عليه وسلم ، في الاقتراب من خالقك بكثرة التعبد والتبتل والذكر وغير ذلك، سيكون الجواب دائمًا: "أنا مشغول  ليس لديّ وقت".

هذا صحيح ، ليس لدينا الوقت ، بل نحن لدى الوقت، لأننا ندعه يذهب دون أن نكلف أنفسنا عناء تصريفه فيما يفيدنا حقًا.

لقد دخلنا للتو عامًا جديدًا ، ولا يمكننا السماح لهذه الأيام بالمرور دون التفكير فيما قمنا به في الماضي وما نقوم به الآن وما يتعين علينا القيام به في قادم الأيام..

آمل أن يكون هذا العام هو عام العدل والسلام والبر والإحسان ورفع الظلم عن كلّ مظلوم بين الأنام، هذه القيم وغيرها مما نرجو أن تملأ عامنا الجديد تُلَخَّصُ في كلمة واحدة: الإسلام

Yeni yorum ekle

Image CAPTCHA
Enter the characters shown in the image.